ثورة الطلاب- ربيع فلسطيني يُسقط هيمنة إسرائيل في أمريكا

المؤلف: سعيد السني11.02.2025
ثورة الطلاب- ربيع فلسطيني يُسقط هيمنة إسرائيل في أمريكا

دأب الرئيس المصري الراحل أنور السادات (1970-1981م)، إثر اندلاع ثورة الخبز المدوية (18-19 يناير/كانون الثاني 1977م)، ضد حكمه، وحتى وفاته، على تسميتها بـ"انتفاضة الحرامية"، رغم طبيعتها الشعبية العارمة. لقد انطلقت هذه الانتفاضة بشكل عفوي وتلقائي، وامتدت لتشمل ربوع مصر بأسرها، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، كرد فعل مباشر على قرارات حكومية قاضية بزيادة أسعار طائفة من السلع الأساسية. هذه الزيادات أدت في نهاية المطاف إلى تراجع الحكومة عن قراراتها المثيرة للجدل، والتي كانت الشرارة التي فجرت الغضب الشعبي.

هذا الوصف الذي أطلقه السادات، "انتفاضة الحرامية"، وغيره من النعوت المشابهة، أصبحت نهجًا متبعًا لدى أغلبية حكومات العالم العربي، حيث تسارع إلى إلصاقها بأي "تحرك طلابي أو شعبي" يخرج عن طوعها، وذلك بقصد التشويه والوصم. غالبًا ما يُنظر إلى هذه التحركات على أنها "مؤامرة" تحركها قلة مندسة من مثيري الشغب، ينفذون أجندات خارجية بهدف التخريب وزعزعة أمن البلاد واستقرارها.

 اشتعال الغضب

تداعت إلى ذهني هذه الأوصاف والمصطلحات النمطية الشائعة في عالمنا العربي، بمناسبة الانتفاضة الطلابية التي تشهدها الجامعات الأميركية، تلك الانتفاضة المتأججة نصرةً لفلسطين، ورفضًا قاطعًا لحرب الإبادة الإسرائيلية - المدعومة أميركيًا - ضد سكان قطاع غزة. يطالب الطلاب بوقف الاستثمارات المالية الجامعية الداعمة لدولة الاحتلال وجيشها.

هذه "الثورة" في مواجهة الاستبداد الإسرائيلي المتغطرس، أوقدت جذوتها الأولى، منذ بضعة أيام، داخل أسوار "جامعة كولومبيا"، في مدينة نيويورك الأميركية. رئيسة الجامعة الدكتورة نعمت شفيق (مينوش)، ذات الأصول المصرية، في محاكاة واضحة لأساليب القمع والتعامل الأمني السائدة في العالم الثالث، استدعت شرطة نيويورك لقمع هذا الاحتجاج، وتفريق اعتصام الطلاب، واعتقال عدد منهم، واصفة إياهم بـ "المتسللين" الذين يهدفون إلى إثارة الشغب وتعطيل سير الدراسة. بل تجاوز الأمر ذلك إلى فصل عدد من الطلاب والأساتذة المتضامنين معهم من الجامعة. هذه الإجراءات القمعية لم تفعل شيئًا سوى أنها زادت من اشتعال الغضب، وامتدت عدوى الاحتجاجات لتصل إلى ما يقارب 75 جامعة أميركية، بل وتسللت أيضًا إلى جامعات فرنسية وكندية وأسترالية، والأمر مرشح للمزيد.

تمويل حماس وإيران

هذا الحراك الطلابي أحدث حالة من الارتباك الشديد لدى الإدارة الأميركية، ودفع إدارات الجامعات، تحت ضغط النواب الصهاينة المتنفذين في الكونغرس، إلى تبني النهج الأمني ذاته، باستدعاء الشرطة للتعامل مع الطلاب بقسوة وغلظة، ومصادرة حرياتهم في التعبير عن آرائهم. عمليًا، أدى هذا القمع الممنهج إلى تصلب موقف جموع الطلاب الثائرة، وتكريس دعمهم للقضية الفلسطينية، وكشف زيف الدعاية الصهيونية وأكاذيبها، بصورة غير مسبوقة في الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الرئيسي والراعي الرسمي لدولة الاحتلال.

من المثير للدهشة، هذا الاندفاع المحموم من جانب وسائل الإعلام التقليدية الأميركية والغربية، لترديد "اتهامات جوفاء وواهية" ضد الطلاب، مستعارة من قاموس المفردات الرائجة في العالم النامي، من قبيل دعم الإرهاب، ونشر العنف والتخريب، بتمويل من حماس وإيران. لم يبقَ إلا أن يتهموهم بالتورط في "مؤامرة كونية" تستهدف أميركا لضرب استقرارها. هذا، بالتوازي مع استخدام تهمة "معاداة السامية"، التي يُختزل معناها في نشر الكراهية لليهود والتحريض عليهم، كسيف مسلط على رقاب "الناقدين" للكيان الصهيوني، أو الرافضين لممارساته الوحشية الهمجية بحق الشعب الفلسطيني، بهدف ذبحهم وتصفيتهم معنويًا، حتى لو كانوا مئات الآلاف من الطلاب.

نبل وشفافية

يتمتع طلاب الجامعات الأميركية، شأنهم شأن أقرانهم في مختلف أنحاء العالم، بقدرة فائقة على قيادة مجتمعاتهم نحو التغيير الإيجابي المنشود. فالطلاب يمثلون قوة هائلة، ومتطورة باستمرار، لا يُستهان بها أبدًا، فهم مصدر إلهام وجاذبية للمجتمع بأسره. إنهم يمتلكون نقاءً وصفاءً فطريًا، ونبلًا جمًا، وشفافية نادرة، وحماسة الشباب المتدفقة، وقدرة هائلة على العطاء، تدفعهم إلى النضال وتحدي الصعاب بكل صلابة، متى آمنوا بعدالة قضيتهم.

ومما يعزز من قوة الطلاب الأميركيين في ثورتهم الحالية، امتلاكهم للعلم والمعرفة، وتبنيهم قيم التعاون والتسامح وقبول الآخر ونبذ التعصب، بالإضافة إلى تحررهم من قيود الأفكار المسبقة البالية. لقد شهدت الولايات المتحدة في عام 1968 احتجاجات طلابية واسعة النطاق مناهضة للحرب الأميركية على فيتنام، انطلقت - ويا للمفارقة - من جامعة كولومبيا نفسها، وجرى قمعها بوحشية، وقُتل عدد من الطلاب بالرصاص الحي، الأمر الذي أسهم في انتقالها إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، والضغط على صناع القرار لوقف الحرب في نهاية المطاف.

وفي العام نفسه، شهدت مصر (فبراير/شباط)، احتجاجًا طلابيًا حاشدًا (في فترة كان التعليم فيها في أوج ازدهاره)، انطلق من جامعة القاهرة، ثم جامعة عين شمس، احتجاجًا على "الأحكام" الصادرة بحق قادة سلاح الطيران، والتي اعتبرها الطلاب "مخففة"، نظرًا لأن القادة المحكومين كانوا مسؤولين بشكل مباشر عن هزيمة عام 1967، بعد أن تمكن الطيران الإسرائيلي من تحييد سلاح الطيران المصري، بتدمير الطائرات المصرية على أرضها. ووفقًا لروايات شهود عيان على تلك الفترة، فإن الرئيس جمال عبد الناصر (1956-1970م)، الذي غالبًا ما يوصف بالدكتاتور، حين علم بعزم الطلاب على التظاهر تنديدًا بأحكام قضية الطيران، والمطالبة بتشديدها، أعطى تعليماته المشددة بتأمين المظاهرات، محذرًا بشدة من المساس بالطلاب.

عبد الناصر.. وحماقة نعمت شفيق

لقد أدرك عبد الناصر بحسه السياسي المرهف أن الحماقة في التعامل مع طلاب الجامعات والصدام معهم، قد تشعل فتيل الاضطرابات في الشارع المصري، لذلك أوعز إلى وزير الحربية بـ "إلغاء الأحكام" وإعادة محاكمة القادة، وهو ما نشرته صحيفة الأهرام في اليوم التالي. من المثير للغرابة حقًا، أن "عبد الناصر"، الزعيم الذي لطالما اتُهم بالاستبداد، تعامل بذكاء سياسي فائق مع مظاهرات الطلبة عام 1968. لقد كان أكثر حنكة ودراية، من الأميركيين (سواء عام 1968 أو 2024)، على الرغم من أنهم يُعدون رعاة الديمقراطية ودعاة الحرية وحقوق الإنسان في العالم، أو هكذا كنا نظن. إلى أن كشفت ثورة الطلاب الأميركيين النقاب عن حقيقة مفادها أن هذه القيم التي تتباهى بها الولايات المتحدة وتتيه بها فخرًا على الدنيا، يتم التضحية بها ببساطة، لقمع الشباب الأميركي، ومصادرة حرياته إرضاءً للكيان الصهيوني.

إسقاط الهيمنة الإسرائيلية

من دواعي السرور، وفي ظل تداعيات "طوفان الأقصى" المبارك، أن الحماقة التي ارتكبتها رئيسة جامعة كولومبيا "نعمت شفيق"، باستدعاء الشرطة للصدام مع الطلاب، قد أحدثت أثرًا عكسيًا تمامًا. لقد قدمت خدمة جليلة للقضية الفلسطينية العادلة، لنشهد ربيعًا فلسطينيًا مُزهرًا في قلب أميركا. كما أشعلت ثورة الطلاب الأميركيين، الآخذة في التمدد والانتشار لتشمل أرجاء أوروبا، لتصبح "نعمت شفيق"، دون قصد منها، أهم أداة في إسقاط "الهيمنة الإسرائيلية" المزعومة عن عرشها المتوهم في عقول الأميركيين والأوروبيين وصناع القرار فيهم.

ليس من المستبعد على الإطلاق، على المدى الطويل نسبيًا، أن تعيد الولايات المتحدة النظر مليًا في دعمها غير المحدود للكيان الصهيوني، بعد أن ضربت "ثورة الطلاب" أخطبوط الهيمنة الإسرائيلية على العقل الأميركي والأوروبي، بالتزامن مع الانكسارات المتتالية التي مني بها "جيش الاحتلال" في قطاع غزة، على الرغم من كل أسباب القوة المادية التي يمتلكها، وانكشافه على حقيقته هشًا، مجردًا من الردع المزعوم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة